◄يصوّر لنا القرآن الكريم حال الذين عندما يقعون في مشاكل، ويصيبهم الخوف والاهتزاز النفسي، والشعور بالمخاطر على أنفُسهم، كيف يلجأون إلى الله تعالى متضرّعين، راجين أن يشملهم بلطفه، ويخلّصهم من أوضاعهم المضطربة، ثمّ إذا ارتاحوا ونجوا ممّا هم فيه، تراهم كيف تغيّرت مشاعرهم وتبدّلت نفوسهم من حال التضرّع إلى الانقلاب على نِعمة الله ومعصيته وكأنّ شيئاً لم يكن، فيظلمون ويتكبرون ويتجبرون.
ويتابع القرآن حديثه عن هذه الفئة الضالّة بأنّها خاسرة ومضلّلة بفعل غفلتها وجهالتها بأمر دنياها، وما ستكون عليه من مصير في الآخرة. ويضرب الله مثلاً كما جاء في سورة يونس المباركة، عن الذين يكونون في السفينة في البحر وتحيط بهم المخاطر، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يونس/ 22-23).
وفي تفسير هاتين الآيتين، فإنّ طبيعة الإنسان التي تستسلم للدعة وتركن للطمأنينة، ثمّ عند مواقف الخوف والجزع والخطر تتحرّك مشاعرها وتنفتح على الله طالبةً العون، ثمّ عند الخلاص تتبدّل هذه الروح فتتحوّل إلى روح ظلامية ناكرة لمعروف لفضل الله ورحمته، شاعرةً بزهوها واغترارها وقوّتها، متجاهلةً ما تفضَّل الله عليها، وبدل أن تشكر الله وتؤمن به أكثر، تنقلب على حدوده، وتمارس البغي والظلم، وتشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، عبارة عن متاع دنيا زائفة سرعان ما تنقضي، وسرعان ما يتّضح لهذه الفئة ما كانت عليه من غفلة وجهل وسوء تقدير ويرون نتائج أعمالهم:
(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (يونس/ 22)، وهو الذي يهيّئ لكم القدرة على السير بأمان واطمئنان في مناكب البرّ ورحابه، وأمواج البحر وآفاقه، حيث تتحرّك كلّ القوانين المودعة في الأرض لتحمي مسيرتكم وتدفعها إلى شاطىء الأمان.
(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) (يونس/ 22)، واستسلموا لهذا الجوّ الهادئ الرَّضيّ الذي يوحي بالطمأنينة والاسترخاء، وعاد الأسلوب في الخطاب إلى الغيبة، ليرجع إلى الحديث عن الظاهرة في جوّها الشامل الذي يتعدّى المخاطبين إلى جميع الناس (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ)، وتلبّد الجوّ واكفهرّت السماء (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) فلم يجدوا مجالاً للتخلُّص من هذه الأمواج العاتية التي ترغي وتزبد وتحاصرهم من جميع الجهات (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) في نوبةٍ من نوبات الإيمان الطارئ الذي يطفو على سطح النفس ليستنجد به في ما يعتقد أنه يقرّبه إلى الله، فينجيه من الموت المحتَّم، (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الذين يشكرونك بالإيمان والطاعة في مستقبل الأيّام.
واستجاب الله هذا الدُّعاء، ليعرِّفهم بأنّ الله رحيم بعباده، وأنّه يعطيهم الفرصة للتراجع، ليقوّي فيهم دوافع الإيمان وعناصر الالتزام. وهدأ الموج، وعاد البحر هادئاً ساكناً، وجرت الريح من جديد، تماماً كما هو النسيم العليل الهادئ في انطلاقة الصباح، وغرقوا في سباتٍ عميق، وبدأت اليقظة تزحف إلى عيونهم بعد ذلك، ولكن الظلام الروحي عاد من جديد إلى الأعماق، ليعيدهم إلى أجواء الشكّ والريبة والتمرّد.
(فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، فيكفرون ويظلمون ويتمرّدون ويتحرّكون في الخطّ المنحرف، بعيداً من الله ومن صراطه المستقيم، ويخيّل إليهم أنّهم استطاعوا أن يخدعوا الله بأساليبهم هذه، فتمتلئ نفوسهم شعوراً بالزّهو والخيلاء، ولكن الله يواجههم بالحقيقة الواضحة، فليست القصّة في حسابات النجاح والفشل هي قصّة اللحظة الحاضرة التي قد تحمل للإنسان بعض الانفعالات اللذيذة السريعة، ولكنّها قصّة المصير في نهايات الشوط، عندما يواجه الإنسان ظلام النهاية الذي يطبق على روحه، فيخنق فيها كلّ حياة. وماذا هناك؟ إنّ البغي الذي يمارسونه على غير طريق الحقّ، لا يمثِّل القوّة التي توحي لهم بالعظمة والكبرياء، بل يمثِّل العقدة المرضية التي تفتك بكلّ مواقع الخير في الداخل، فتحركهم إلى مواقع الهلاك والدمار. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، لأنّكم تعرّضونها لعذاب الله في الآخرة، لأنّ هذه الفرصة السانحة ليست هي الفرصة الأخيرة لتعتبروا أنفُسكم بأنّكم ربحتم الشوط كلّه، فهناك فرصٌ أُخرى للنجاح، ستفقدونها بأجمعها في لحظات الحساب الحاسمة (مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هذا الذي تنعمون به الآن، تماماً كما هو حالكم قبل نزول البلاء، (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وليست القضية مجرّد إعلامٍ وإخبارٍ، ولكنّها المسؤولية المباشرة التي يواجه من خلالها الإنسان قضية المصير على مستوى النار التي وقودها الناس والحجارة.
وماذا تمثِّل هذه الحياة اللاهية العابثة المليئة بالزَّخارف، التي يعيش فيها الإنسان معصية الله على أكثر من صعيد؟ إنّ الله يريد أن يبصّر العباد بحقائقها ليلتفتوا إليها من موقع الفكر والتأمّل، لا من موقع الانبهار والالتذاذ.
ويصادف أن تعثر في المجتمع على كثير من النماذج المماثلة، من أُناس ينقلبون على نِعمة الله، ولا يؤدِّون حقّها، فيستغلون قوّتهم ومكرهم بعد ضعف، ويتجبرون على الناس، ويسيئون إليهم، ويعتدون على حقوقهم، ويتناسون ما كانوا عليه من حال، وكيف نجّاهم الله تعالى من كثير من المشاكل وحالات الضعف والسقوط، وأخذ بأيديهم كي يذكروا نِعمة الله ويلتزموا سبيله مزيداً من إفادة الحياة بكلّ موقف حقّ، وكلّ حركة نافعة، وكلّ سلوك طيِّب وعمل صالح.. فما أكثر مَن هم في مواقع المسؤولية المتنوعة الذين انقلبوا على الحقّ، وتجاهلوا حقّ الله وحقّ الناس.
المؤمن الحقّ هو مَن يثبت على إيمانه، ويجعل من روحه وحركته خالصة لله تعالى، وكلّما زاده الله توفيقاً ونجاةً وغنى، ترجم ذلك مزيداً من الإخلاص لله، ومزيداً من شكره وحمده على فضله ورحمته، مستذكراً على الدوام المصير الأُخروي، عاملاً له بجدّ، لأنّه عارف تمام المعرفة بأنّ حطام الدُّنيا ومتاعها قليل وزائل، وأنّ الآخرة هي المستقرّ والباقية.
صور قرآنية رائع، تفتح مشاعرنا على الحقّ والخير، وتحرِّك فينا كلّ حكمة وتعقّل، مستثيرة كلّ الكوامن البشرية، كي تؤكِّد الالتزام بنهج الله وخطّه وهداه.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق